حين حلم فؤاد افرام البستاني بخورخيه لويس بورخيس محبوس في قشرة جوزة يحكم ممالك لا تحد


ربيع جابر  | التاريخ: 1999-04-16 | رقم العدد:8273

حين حلم فؤاد افرام البستاني بخورخيه لويس بورخيس محبوس في قشرة جوزة يحكم ممالك لا تُحد **** خلال صيف 1971 أو 1972 يستيقظ فؤاد افرام البستاني في بيته القرميدي في دير القمر، ويعد ركوة قهوة، ثم يجلس الى طاولة الكتابة. انه يصحح المادة الخاصة ب»الأرجنتين« للمجلد التاسع من »دائرة المعارف« (صدر في عهد الرئيس سليمان فرنجية). يقرأ مسرعا ما كتب عن هندسة بيونس أيرس كمتاهة من الشوارع المتقاطعة، وتعبر عيناه على صورة لسهل البامبا، ثم تتوقف نظرته على مجموعة من »الغاوتشو« المتحلقين حول كومة من أعشاب المتّة. في خانة »الأدب« كتب عن قصيدة »مارتين فييرو« (1872) وكتب أيضا عن الأقاصيص الخيالية لبورخيس المولود (خطأً) سنة 1900 والذي ما يزال حيا يرزق. يحس بألم في رأسه فيترك أوراقه ويخرج إلى المصطبة. شعاع الشمس الصباحي ينزل أمام قدميه وهو يحاول أن يتذكر المنام الذي رآه قبل ساعة. لسبب غامض يتذكر مقطعا من قصيدة »مارتين فييرو«، الملحمة الأرجنتينية المكتوبة في القرن التاسع عشر. في ذلك المقطع يصف هرناندز نهوض الغاوتشو (الهندي الأرجنتيني) من نومه، في الفجر البارد، وإشعاله للنار وإعداده للإبريق وقرعة المتة. يفعل الغاوتشو ذلك، بينما يراقب من نافذة كوخه، الضوء الصباحي الأخضر يغمر السهل المحروث في الخارج. رجع فؤاد افرام البستاني الى أوراقه وهو يفكر في ان ذلك المشهد يتكرر الآن في القرى حوله. كأن أبناء الجبل اللبناني ليسوا حقيقيين، كأنهم الأبطال الخياليون في قصيدة مكتوبة بالأسبانية قبل قرن. ثلاثة مجلدات إحدى النسخ في »دائرة المعارف« استقرت في مبنى تابع للأمم المتحدة في بيروت. خلال جولة قصف في حرب السنتين أصيب المبنى المذكور براجمة صواريخ. بواب المبنى، وأصله من بعقلين، أنقذ معظم الكتب السميكة من النار. المجلدات 8 و9 و10 من »دائرة المعارف« نامت في قبو في حي »رأس النحل« في بعقلين من سنة 1977 حتى سنة 1988. أواخر 1988، بينما أصطاد العصافير مع بعض الأصدقاء في خلة الدير، وهو الوادي الذي يفصل بعقلين عن دير القمر والنقطة التي انطلقت منها حروبنا الأهلية على ذمة مؤلف »الحركات في لبنان«، التقيت برجل يخرج أغراضا من قبو: أثاث قديم، وصناديق، وأكياس كتب، ومخلفات حيوانات. أعطاني المجلدات الثلاثة من »دائرة المعارف« هدية. أهديته في المقابل عصفورين. وُلد خورخيه لويس بورخيس، تحت برج العذراء، في 28 آب 1899. قضى طفولته في ضاحية باليرمو من بيونس أيرس. كان ضعيف البنية والبصر، يقضي ليله ونهاره في مكتبة أبيه المكتظة بآلاف الكتب الانكليزية والاسبانية. مثل البرتغالي فرناندو بسّوا، ومثل اليوناني قسطنطين كافافي، أحب الانكليزية حتى كاد يفضلها على لغته الأم. قرأ لويس كارول، والأخوين غريم، وترجمة بيرتون لألف ليلة وليلة، وقصص ستيفنسون وكيبلنغ ومارك تواين وإدغار آلن بو وويلز، ووقع في حب الانسيكلوبيديا بريتانيكا، قبل أن يقرأ دون كيشوت (بالانكليزية أيضا) ثم ينتقل الى الاسبانية مع مارتين فييرو، وأشعار صديق العائلة ايفارستو كارييجو. في التاسعة ترجم الى الاسبانية كتابا لأوسكار وايلد، وبعد سنة ترجم لفرجينيا وولف. كان يحمل اسم والده، وعندما نشر ترجماته حسب القراء انها ترجمات الأب. الأب كان محاميا مولعا بقراءة بيركلي وهيوم وشوبنهاور، والأم مثله. الأب كتب رواية، والأم ترجمت لفوكنر. والابن، بورخيس، عرف باكرا ماذا يريد القدر له. سنة 1914، قبل أشهر من انفجار أول حرب عالمية، قرر الأب الانتقال بالعائلة الى أوروبا، كان يشكو من مرض وراثي في عينيه، وبحاجة الى أطباء جنيف وباريس ومدريد. حين بلغوا أوروبا بدأت الحرب فأقفلت في وجههم درب الأطلسي. من 1914 الى 1921 ساح بورخيس مع أهله في أوروبا. تعلم في كل المدن، وجعل يتقن اللغات لغة اثر الأخرى: الفرنسية، الألمانية، الايطالية... فعل ذلك كمتنوري عصر النهضة، مستخدماً القواميس وقوة الإرادة. قرأ ويتمان الأميركي في ترجمة ألمانية. وبدأ يكتب الشعر. كان دخل في العشرين، وقرر كما سيكتب لاحقا ان يكون شاعرا مليئا بالتعاسة كمزيج من هاملت وأبطال دوستويفسكي. كتب في مديح الثورة الشيوعية وأحرق ما كتبه، ثم قرأ رواية أبيه عن تاريخ جده شبه الأسطوري (كان قائدا عسكريا شارك في حروب الأرجنتين الأهلية في 1860 و1882)، وأفسد بعض عباراتها باستعارات أخذها عن شعراء ألمان. أراد الأب أن يرتكب الابن كل الأخطاء الأدبية الممكنة كي يتعلم بمفرده. في 1921 عادوا الى بيونس أيرس. الأب والموت كان كافكا (1883 1924) يحلم بالتحول الى آلة للكتابة في قبو عميق. عاش حياته في كنف والده، وكان والده يهزأ من كتاباته. هذا الصراع المتواصل مع الأب (والعالم) أفضى بكافكا الى الموت. في رسالة له الى صديقه وناشر كتبه بعد موته ماكس برود، قال كافكا إن السل الذي بدأ يأكل رئته هو الجرح الناتج عن طعنات سكاكين العملاقين اللذين يتعاركان في جسمه، دون لحظة راحة واحدة منذ أن وُلد. 


* * * 

في وطنه، بين 1922 و1929، كتب بورخيس ونشر ثلاثة دواوين شعر وأربعة كتب مقالات. كان يكتب لملاحق أدبية، ويقيم صداقات، ويؤسس مجلات لا تعيش طويلا، ويمشي مع أبيه أو رفاقه في شوارع بيونس أيرس التي نمت بسرعة خلال غيابه عنها في أوروبا. في 1929 نال جائزة عن كتاب مقالات. ثلاثة آلاف بيزوس، أو ما يعادل 800 دولار آنذاك. ابتاع أولاً نسخة مستعملة من البريتانيكا. (الطبعة رقم 11 الشهيرة المطبوعة في 1902). ذلك ان مكتبة أبيه كانت قد تبعثرت. وبالمال الباقي قرر ان يعتزل الكتابة للصحف طوال سنة. »في هذه السنة سأكتب كتابا حقيقيا«، قال لصديق أبيه وأستاذه السري ماتيدنيو فرناندت. كان فرناندت حسب بورخيس رجلا احتوى هيوم وشوبنهاور وويليام جايمس وبيركلي معاً، ودون أن يقرأ أياً من هؤلاء. كان كثير التنقل بين الشقق المفروشة، يهرب من شقة الى أخرى، كي لا يسدد الإيجار، ويقضي وقته في التأمل. قال لبورخيس انه يؤمن بأن هذا العالم بكل ما فيه مصنوع من مادة المنامات. (فكر بورخيس للحظة أن روح شكسبير تكلمه من جسم فرناندت)، وأخبره ان الحقيقة ممكن معرفتها، وأما نقلها الى الآخر فمستحيل. لم يعرف بورخيس، ابن الثلاثين، ماذا يقول. وانصرف الى الكتابة عن شاعر باليرمو إيفارستو كارييجو الذي مات مسلولا سنة 1912. دون أن ينتبه، وجد بورخيس نفسه يكتب عن المدينة لا الشاعر. كان يتبع في ذلك كما اكتشف بعدئذ سيرة بطله الأدبي توماس كارلايل مع كتابه عن فردريك الكبير. »ايفارستو كارييجو« بمثابة قصيدة حزينة عن بيونس أيرس القديمة: الباحات، القتال بالخناجر، الغيتار والتانغو، المتة، بوابات الحديد المنقوشة، ورائحة القهوة والتبغ والغبار المبلل بالمطر. كل هذا، والكلمات. عندما قطع بورخيس الأطلسي لأول مرة سنة 1914 قادما الى »العالم القديم« كانت البوابير تنقل أبناء الجبل اللبناني الهاربين من الجوع وكساد مواسم القز الى أميركا الجنوبية. بين هؤلاء كان أخو جدي لأبي عمل طوال عشر سنوات في أشغال سكك الحديد التي ربطت بيونس أيرس بهضبة بتاغونيا. وهؤلاء المهاجرون أو من رجع منهم ربطوا الجبل اللبناني بسهول البامبا وقرطبة وبيونس أيرس. ربطوا هذه البقعة من الشرق الأوسط بتلك القارة البعيدة، بالحياة التي بددوها بين هنا وهناك، ثم أرّخوا لهذه الحياة ببيوت قرميد عمَّروها في قرى الجبل، وبالمتة التي رجعوا بها من هناك (كروزات دي مالطا كانت الأشهر وقتئذ). 


* * * 

انتقل بورخيس من الشعر والمقالات الى القصة القصيرة. قصته الأولى صدرت في مجلة كريتيكا في 16 أيلول 1933 تحت الاسم المستعار فرانسيسكو باستوس (اسم أحد أجداده). هذه قصة عن حانة وعراك بالخناجر وقرعة متة تدور على المتحلقين فوق جثة المحتضر فتصنع دورة كاملة قبل أن يموت. قصة مكتوبة لتُقرأ، وعلى الفور عرفت الشهرة. من 1933 والقصة المذكورة (رجل الناصية) تبدأ رحلة بورخيس التي غيرت ملامح الأدب الحديث: فتح الكتابة على التخييل غير المحدود، والعودة الى كتب كل الحضارات لإقامة جسور واكتشاف علاقات بينها، وتحويلها وإعادة إنتاجها من جديد. هذا جوهر رحلة بورخيس في الكتابة: حين نكتشف علاقة بين نصين نكون قد اخترعنا نصا ثالثا. في قصته الثانية الصادرة سنة 1935 (مقاربة للمعتصم) يقيم بورخيس علاقة خيالية بديعة بين الهند كما يتخيلها الانكليزي كيبلنغ ابن القرنين التاسع عشر والعشرين، وبين رحلة السيمورغ والبحث عن الذات الإلهية كما يتخيلها فريد الدين العطار النيسابوري ابن القرن الثاني عشر. العلاقة بين هذين المرجعين تنشأ تلقائيا في مخيلة كاتب من طراز بورخيس لتصنع لنا في اللحظة ذاتها رواية هندية لكاتب غير موجود هو بهادور علي، ونقدا أدبيا مخادعا لهذه الرواية المزيفة يوقّعه بورخيس نفسه. بعد هاتين القصتين البديعتين تأتي »حادثة النافذة«: هذه اسطورة صنعها بورخيس في سعيه الحثيث لتحويل نفسه الى كتاب (أليس هذا حلم أوفيد! ألم يحول أوفيد أبا القيصر الذي نفاه من روما في القرن الأول قبل الميلاد الى كوكب في السماء فقط كي يعلن ان كلماته هو تحوم فوق الكوكب المسحور! ألم يبدأ بالفخر، وبحجز مقعد خالد له في مسرح التاريخ!). لأن بورخيس يعرف ان الكاتب لا يبقى (من ألّف ألف ليلة وليلة؟ هل نعرف اسماً له؟)، وأن الكتاب في ختام المطاف يبتلع كثقوب الكون السوداء كل شيء، يبتلع حتى كاتبه (كتبي لا تعلم أنني موجود). وليتحول هو أيضا الى كتاب جعل بورخيس يرسم لحياته خطا قصصيا يشبه الأدب الذي يحب. أولاً أرّخ لأجداده، وللحظة اللقاء الملحمية بين جده الكولونيل المدافع عن مدينة محاصرة، وبين جدته الناظرة عن سطح بيتها المهدد الى هذا البطل الذي يبدو خارجا من إلياذة هوميروس. هؤلاء أجداده لأبيه. (وأرّخ أيضاً لأجداده لأمه بالحديث عن مقالة في مجلة طبية فيها وصف لعملية جراحية لعين أحدهم). يصف بورخيس جده الكولونيل (في مقالة هي سيرة ذاتية، كما في قصيدة أيضا!) متقدما بطيئا على حصانه، يستقبل رصاص بندقيات الرمينغتون (التي كانت آنذاك تستعمل لأول مرة في تاريخ الأرجنتين)، ويسقط مقتولا. ثم يردف متحدثا عن سخرية القدر فهو يحلق ذقنه كل صباح بشفرات »رمينغتون«. يريد بورخيس الإيحاء للقارئ بتفاهة وضآلة قدره متى قورن بالقدر الملحمي لجده. لكنه يقوم بهذه المهمة بطريقة تجعله يسمو فوق كلماته، بقوة كلماته ذاتها، كي يصير في اللحظة ذاتها ذلك الجد الذي يسقط كبطل يوناني عن حصانه، والحفيد الذي بحكمة هوميروس العتيق يدوّن المأثرة الخالدة. (في المتاهة كلنا واحد). هكذا يحول بورخيس حياته الى كتاب. أولا يضع نفسه في قلب سلالة من الأبطال، وبعد ذلك يصمم قالبا مسرحيا لمجيئه الى عالم الكتابة. (حين أقول »مسرحيا« أفكر بأوديب ونبوءة دلفي). كتبي لا تعرفني كيف يروي بورخيس قصة وصوله الى عالم الكتابة؟ يبدأ بالحديث عن مكتبة أبيه. هذه عبارة أثيرة عنده: لم أربَّ في باليرمو، وإنما في مكتبة وبين الحيطان. بعد ذلك يسخر من حياته شاعرا في أوروبا أو في بيونس أيرس العشرينيات والشباب. ويحاول بعدئذ أن يتجاوز أول قصتين له، معلنا أن »رجل الناصية« (1933) تشبه المسرح والباليه وليست واقعية تماما، وأن »مقاربة للمعتصم« (1935) مقالة متنكرة في زي قصة، أو قصة متخفية خلف قناع مقالة... وكل هذا لماذا؟ لأنه يريد ان يتحفنا بقصة جديدة تعلن كنبوءة دلفي وبطريقة سحرية عن التراجيدية والقدرية في انتقاله الى كتابة القصة القصيرة. وكيف ذلك؟ يروي بورخيس »حادثة النافذة«، التي جرت في عيد الميلاد من سنة 1938، سنة موت والده (عيد الميلاد!). يكتب انه كان عائدا من عمله (منذ 1937 يعمل موظفا صغيرا في مكتبة عامة، ويتقاضى راتبا شهريا زهيدا يقارب 90 دولارا) عندما طرق رأسه حافة نافذة مفتوحة ومطلية حديثا. تسمم الجرح، وظل يتقلب في الحمى (بورخيس الذي قرأ كل شيء، قرأ ولا بد قصيدة المتنبي في وصف الحمى)، بين الحياة والموت، ما يقارب الشهر. وبعد النجاة بدأ يكتب قصصاً. ولماذا كتب قصة؟ كي يتأكد من سلامته العقلية. (وعن »حادثة النافذة« كتب قصة »الجنوب« البديعة). أليست هذه خدعة أخرى في كتاب الحياة؟ من 1938، والقصة الأولى الجديدة التي ويا لها من صدفة! تحكي عن كاتب من القرن العشرين يجرب ان يكتب دون كيشوت من جديد، الى 1941، أربع سنوات يكتب بورخيس خلالها سبع قصص قصيرة لا يلبث ان يصدرها في كتاب واحد هو »حديقة الممرات المتشعبة«، الذي ضم أيضاً »مقاربة للمعتصم«. قصة »تلون أكبار أوربس ترتيوس« عن مقالة في نسخة مزوّرة من البريتانيكا. مقالة عن عالم خيالي لا يلبث أن يأخذ مكان عالمنا. قصة »الخرائب الدائرية« عن رجل يصنع عالما من حلمه ليكتشف في لحظة الرعب الأخيرة انه هو وعالمه جزء من حلم آخر (فرناندت؟). قصة »فحص أعمال هربرت كواين« بمثابة إعادة لخدعة »مقاربة للمعتصم، وقد لجأ جوزيه ساراماغو في رواية صدرت بالبرتغالية سنة 1984 الى استحضار أعمال هربرت كواين الى كتابه وكأنه مؤلف حقيقي وليس من نسج خيال بورخيس. (ما الحقيقي وما الخيالي؟). قصة »مكتبة بابل« هي عن الكون الذي هو مكتبة، وعن »المكتبة الحقيرة« حيث عمل بورخيس من 1937 الى 1946، مقابل أجر زهيد، وكروز متة في آخر الشهر هدية من المدير. (كان يمشي الى الترام، حاملا المتة بيد، وكوميديا دانتي الإلهية باليد الأخرى، فيما الدموع تملأ عينيه!). ومن 1941 حتى 1944 حفنة جديدة من القصص، وكتاب يضم مجموعة القصص السابقة. العنوان: »أقاصيص«. وبورخيس يتحول الى الاسم الألمع بين أقرانه. (في السيرة التي كتبها بالانكليزية مع مترجمه دي جيوفاني سنة 1970 يرفض بورخيس كلامي هذا، معتبرا ان الشهرة لم تأت إليه فعلا إلا مع الخمسينيات وترجمة نستور إيبارا لقصصه الى الفرنسية عن منشورات إيميك). جزء من الأسطورة التي يصنعها بورخيس حول تاريخه والتي يصدقها الجميع، كلامه عن بقائه مجهولا في وطنه حتى ذيوع صيته في فرنسا خلال أواخر الخمسينيات وتكريس نجوميته العالمية في 1961 بجائزة فورمنتو التي نالها مناصفة مع صامويل بيكيت. ندحض هذا الزعم بسهولة: في 1946، ولدى وصول بيرون الى الحكم، ترك بورخيس المكتبة حيث يعمل، لأنه بزعمه الشخصي وجد نفسه مستهدفاً من بيرون وزوجته إيفا. لماذا يُستهدف بورخيس إذا كان مجهولا؟ دليل آخر بسيط: في 1950 ينتخب بورخيس رئيساً لجمعية الكتّاب الأرجنتينيين. وفي 1955، بسقوط بيرون، يعيّن بورخيس أمينا عاما للمكتبة الوطنية في بيونس أيرس. في 1949 تصدر مجموعته القصصية الأشهر بعد أقاصيص: »الألف«. وسوف تنشر من جديد مع إضافات في 1952. (تكرار صدور طبعات من كتبه أيضا دليل على شهرته). بهذين الكتابين »أقاصيص« و»الألف« صنع بورخيس واحة في صحراء الأدب خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وخلالها. (لا أذكر اسم الناقد الذي أنجز هذا التشبيه، لكنه معبّرجدا). هذا أمر لافت: بين 1938 و1949 كتب بورخيس أجمل قصصه. هنا الذكاء والخيال والثقافة غير المحدودة، والأسلوب الهادئ المرعب بقدرته على التعبير والخلق... وكل هذا في فترة من الاضطراب الكوني المذهل! فترة »صخب وعنف« وتيارات أدبية سياسية، حيث لا مجال للفرار من إعصار الحاضر و»الالتزام الاجتماعي«! فأين كان بورخيس من تلك الدوامة كلها؟ قد أكون كتبت هذه المقالة من أجل الجملة التالية: بورخيس ليس من هذا العالم. لقد عاش حياته فعلاً داخل مكتبة وبين حيطان. وحين يغمض عينيه هو الذي جاء إليه العمى بطيئا منذ طفولته وأنزله الى العتمة نهائيا قبيل بلوغه الستين كان يستطيع أن يرى كل مشاهد العالم كأنه يحمل كرة باسكال (الألف) بين يديه (انظر قصة »فيونس«). لا أحد في المرآة حين وصف العمى الذي جاء إليه كغسق صيفي بطيء كتب انه تدريجا وجد نفسه غير قادر على تبيّن وجوه الأصدقاء حوله ثم فجأة رأى ان »لا أحد في المرآة«. كيف رأى المرآة ليعرف ان لا أحد فيها؟ رآها كما رأى كل شيء: بقلبه لا بعينه. والأصح: بعقله. لأنه تلميذ الفلاسفة. في 1955 كتب ان القدر أعطاه 800 ألف كتاب (عدد المؤلفات في المكتبة الوطنية التي بات فجأة أمينها العام ومديرها) والظلمة في لحظة واحدة. كان بذلك يتهيأ لنص رائع سيكتبه سنة 1958 بعنوان »الصانع« وفيه يقارن مصيره بمصير الأعمى العتيق، الأعمى الهائل الأول، هوميروس (لنفكر أيضاً بالعاجز الرائي في قصة »النهاية«). هذه جملة أسطورية أخرى في كتاب حياة خورخيه لويس بورخيس. الظلمة التي منحها القدر لبورخيس قد تكون الحلقة الأخيرة في سلسلة حياته الخيالية. أولاً مكتبة الأب، ثانياً الحمى، وأخيراً الظلام. أما قبل الولادة فكان تاريخ الأجداد الملحمي. وأما بعد الموت، فالخلود! أو التلاشي! (انظر »بورخيس وأنا«). في القصة الأجمل في »الألف«، حياة تيديو إيزيدورو كروز، نرى رجلا يشبه بورخيس. هذا فار من العدالة يتحول شرطيا ثم فارا. والقصة تبدأ باقتباس من بيتس: »أبحث عن الوجه الذي كان لي قبل ان يولد العالم«. من كان بورخيس قبل أن يُصنع العالم؟ (الاسكندر كان آخيل!). في مقالة عن ادوار فيتزجيرالد مترجم رباعيات عمر الخيام الى الانكليزية كتب بورخيس المتعمق في ديانات الشرق الأقصى (وفرق الإسلام الباطنية ربما!) ان عمر الخيام الفارسي أتيح له أن ينتقل روحا الى انكلترا الحديثة ليعيد كتابة أشعاره موقّعة باسم فيتزجيرالد، وفي لغة جديدة. في قصة عن »غاوتشو« يُقتل بخنجر أصحابه يكتب بورخيس عن يوليوس قيصر صارخا »حتى أنت يا بروتوس« كأن الغاوتشو يموت فقط ليكرر مشهدا شكسبيريا. في »قصة ابن خاقان البخاري« يعيد بورخيس انتاج »علامة السيف المكسور« لتشسترتون محولاً القاتل ضحية والضحية قاتلا، والبيت الأخير متاهة، والمتاهة بيتا أخيرا. (وعاد وكرر هذه التيمة في »شكل السيف«). هل الخنجر أداة، أم الإنسان أداة الخنجر! ومتاهة الممرات المتشعبة، الوقت المحاصر بالحيطان والخناجر والساعات الرملية، هل كل هذا رمز لشيء آخر؟ (هيراقليطس رمز النهر. النهر رمز هيراقليطس). هل يقول بورخيس انه هوميروس وشكسبير أيضا؟ »الرجل الذي يقرأ بيتا شعريا لشكسبير هو شكسبير«. انه كل الرجال، وهو لا أحد. توفي بورخيس في 14 حزيران 1986 في جنيف. بين 1968 و1972 كان قد تعاون مع الأميركي دي جيوفاني على ترجمة معظم كتبه من الأسبانية الى الانكليزية. خلال هذه الفترة كتب قصة بدرو سالفادورس بالانكليزية مباشرة. وكتب بالانكليزية أيضا سيرته الذاتية التي اعتمدنا عليها في هذا المقال. كان بول تيرو الذي عَبَر الأميركيتين بالقطارات منتقلا من بوسطن الى بيونس أيرس قد التقى بورخيس وتكلما حول اللغات. قال بورخيس إنه حلم دوماً بالكتابة بالانكليزية. في قصصه ومقالاته يذكر بورخيس نثر ستيفنسون في جملة واحدة مع رائحة القهوة أو ضوء الشتاء مثلا. وهذا الولع بموسيقى الكلمات الانكليزية، الذي قاده الى دراسة لغة الإيسلنديين القدامى، يشير بالتأكيد الى شكسبير. بورخيس كتب في »الصانع« المنشور سنة 1960 ان شكسبير توقف عن العمل في المسرح حيث اكتشف انه هاملت، أنه ريتشارد الثاني، وأنه ماكبث والملك الذي قتله ماكبث والخنجر الدامي في يد ماكبث. ترك شكسبير المسرح حين أدرك انه كل هؤلاء البرابرة والملوك، ولكنه أيضا ليس أحدا. أراد شكسبير ان يكون نفسه. بورخيس أراد أن يكون شخصا آخر. ولكن هل هناك فرق فعلا! ان طلب شكسبير هو طلب بورخيس ذاته: أن لا أكون أنا الذي هو أنا الآن. أن أكون أنا كما سأكون غدا. يطلب الكاتب المستقبل، أن يوجد بعد موته، أن يتحول كتابا. كما في حلم وردسورث. قد لا يحب بورخيس أوفيد، وقد يفضل عليه بلينوس (انظر عدد المرات التي يذكر فيها هذين في »كتاب المخلوقات الخيالية« مثلا). لكنه في الختام لا يقدر أن يرفض الشعر، لأن الشعر هو البداية والنهاية. (ألم يبدأ بورخيس شاعرا وينتهِ شاعرا؟). وفي الشعر، في خيال وردسورث، يتحول سرفانتس الى دون كيشوت ويتحول دون كيشوت الى فارس على حصان والى كتاب في آن معاً. وفي يد الفارس/ الكاتب حجر هو حجر وكتاب في آن معاً: كتاب هندسة اقليدس. لماذا هندسة إقليدس؟ لأن وردسورث، مثل بورخيس، باحث عن نظام: ان تقيم علاقات وتكتشف خيوطا بين الحضارات والكتب والعصور. أليس هذا سعيا لإضفاء نظام على فوضى الكون؟ (خيط أريان في متاهة المينوتور). يريد بورخيس ان يتحول هو والعالم الى كتاب. يريد العالم ان يصير كمكتبة والده. هل نجح بورخيس؟ حديث مع أعمى في آب 1997 أحصيت 20 كاتبا عالميا (ماركيز، كورتاثار، كالفينو، باموك، ساراماغو، موراكامي، كيش، نورخ، بيريك، دونوزو، ايكو...) كتلامذة لبورخيس. (»الحياة« الاثنين 16 آب 1997). ذلك، في الغالب، قد لا يعني شيئا. ما يعنيني هنا ذلك المنام الذي رآه فؤاد افرام البستاني وهو على المصطبة، وخلة الدير تحته. المنام الذي رآه؟ لا، المنام الذي حاول أن يتذكره، ولم يتذكره، تذكر بدلا منه مارتين فييرو ينهض صباحا، يغطي زوجته بالبطانية، ويشعل ناراً ليشرب متة. ماذا رأى فؤاد افرام البستاني في المنام خلال تلك الليلة الفاصلة بين مساء وصباح من العمل على »الأدب الأرجنتيني«؟ ان الجواب عن هذا السؤال يذكر من قبل ان يبدأ بقصة بورخيس عن ابن رشد. حاول بورخيس ان يتخيل ابن رشد في قصة وهو لا يعرف عنه إلا اسمه تقريبا. (ماذا أعرف أنا عن فؤاد افرام البستاني؟ ومن يؤكد لي انه هو كاتب المقالة عن »الأدب الأرجنتيني« أصلاً!). ثم، في النهاية، أدرك بورخيس ان ابن رشد يوجد ما دام هو بورخيس يؤمن به »لحظة أكف عن الإيمان بابن رشد يختفي«. في هذه اللحظة أؤمن بفؤاد افرام البستاني، في ضوء الصباح، في ذلك الصيف، لنقل 16 أو 17 أيلول 1972، وهو يفكر في حروب الأرجنتين الأهلية (حرب ال1860 مثلا) ويعقد مقارنة بينها وبين حروب الجبل اللبناني. يفكر في تلك الحروب القديمة، ويفكر في المتة، ويفكر أيضا في الكتابة عن هذه الأشياء. يخطر له أن يكتب قصة، فيكتب قليلا ثم يمزق ما كتبه. لأنه لا يقدر. لأنه ليس كاتب قصص. لأنه يعجز عن نسيان نفسه (المركز، العباءة، الوظيفة، التراث العائلي، هذه الأشياء، ولكن أيضا أشياء أخرى، لا يمكن تحديدها بالكلمات، لكنها موجودة)، ولأنه لا يستطيع أن يكون شخصا آخر، لأنه لا يقدر أن يكون لا أحد! رمى القلم من يده، أغمض عينيه. كان الظلام كثيفا، وللحظة بات أعمى. وفي الظلمة الساطعة عاد إليه المنام المفزع فجأة: كان جالسا يتحدث مع رجل أعمى، وقربهما رجل ثالث مخفي في ظلال جدار أبيض. الأعمى كان يحكي عن باليرمو، وعن غيتار وصوت رجل يدعى ماتيدنيو فرناندت. »حين أموت سيموت معي هذا الصوت«، قال الأعمى. كان هذا بورخيس. وتابع: »حين ستموت أنت، ماذا سيموت معك؟«. الثالث، الذي في الظلال، ظل صامتاً.

تعليقات